على خلاف ما يتخيّله بعض المشجعين والمحللين، لم تكن عصور الملاكمة الماضية دائمًا بالروعة التي يُروى عنها. فقد مرّت اللعبة بفترات صعبة للغاية، وفي بعض الأحيان بدا وكأن العالم يريد التخلص منها.
وكانت بداية الخمسينيات مثالًا واضحًا على ذلك، إذ كادت تلك حقبة أن تقضي على الرياضة تمامًا.
بين عامي 1950 و1955 ارتفعت نسبة المنازل الأمريكية التي تمتلك جهاز تلفاز من أقل من %10 إلى نحو %80، وهو تحول غيّر المشهد الرياضي والملاكمة على وجه الخصوص بصورة جذرية.
فجأة لم يعد المال الذي يأتي من بث النزالات أو تسجيلها حكرًا على نخبة النجوم، ولم تعد إيرادات حضور الجماهير في الصالات هي العامل الرئيسي في توزيع المكاسب.
كما أن هذا التحول جعل القوى المسيطرة على الملاكمة أكثر وضوحًا للعيان.
برز نادي الملاكمة الدولي IBC في نيويورك أواخر الأربعينيات، بعد إصابة المروّج الشهير مايك جاكوبس بسكتة دماغية.
وتدريجيًا، خضعت مجموعة من الملاكمين والمديرين وصالات العرض لسيطرة شبكة جريمة منظمة تنشط على الساحل الشرقي.
كانت القضية معروفة للجميع، حتى أن الصحفيين أطلقوا على الـIBC ألقابًا مثل:
"شركة المجسّات" و "الأخطبوط" بسبب انتشاره الواسع نحو الغرب الأوسط ومنطقة البحيرات العظمى.
ومع توسّع IBC وضمّه مزيدًا من الملاكمين ، بدأت الحكومة الفيدرالية بمراقبة الوضع عن كثب.
وفي مطلع عام 1954، أطلق المدّعون العامون تحقيقًا لمكافحة الاحتكار ضد الـIBC، الأمر الذي زاد من تآكل ثقة الجمهور في الملاكمة، وذلك في وقت كانت فيه تُعرض على شاشات التلفاز أكثر من أي فترة سابقة.
وفي عام 1955، تراجعت بطاقات القتال المعروضة على التلفزيون بنسبة %20، وكان من الواضح أن الرياضة بحاجة إلى دفعة قوية مع اقتراب دخولها عام 1956.
في العام نفسه، أجرت مجلة
ذا رينج استبيانًا لجماهير التلفزيون حول الملاكمين الأكثر شعبية، وجاء بطل وزن الويلتر كارمن بايسيليو في المركز الأول، بينما حلّ البطل السابق توني دي ماركو في المركز العاشر.
وقد ظهر الاثنان مرارًا على القنوات الوطنية، بما في ذلك نزالهما الشهير الذي أصبح لاحقًا علامة فارقة في التاريخ.
كان بايسيليو يعاني منذ سنوات من ضغوط الـIBC، إذ أجبرته إدارة النادي على الانتظار طويلًا قبل الحصول على فرصة المنافسة على اللقب، نتيجة رفضه التوقيع رسميًا معهم.
وكان قد خسر قرارًا متقاربًا أمام البطل كيد غافيلاّن عام 1953، وهو نزال أثار التساؤلات خاصة أن IBC أقرضت غافيلاّن مبالغ ضخمة في تلك الفترة.
وعلى غرار بايسيليو، كان دي ماركو ملاكماً صلبًا يتعرض للجروح والكدمات بسهولة، خاصة مع أسلوبه الهجومي. لم يكن أي منهما ضاربًا قاضيًا بلكمة واحدة، لكن كلاهما كان قادرًا على الإيذاء وتلقّي الإيذاء، ما جعل المواجهة بينهما حلمًا جماهيريًا.
خاض الاثنان نزالًا عنيفًا في يونيو 1955 في قاعة الحرب التذكارية بمدينة سيراكيوز، بالقرب من مسقط رأس بايسيليو في كاناستوتا.
ورغم أن بطاقات الحكام منحت بايسيليو تقدمًا مريحًا، إلا أنها لم تعكس حقيقة النزال الوحشي الذي امتلأ بالجروح والدماء لدى الطرفين.
وبعد إيقاف النزال في الجولة الثانية عشرة لصالح بايسيليو، عمّت الفوضى أرجاء القاعة من شدّة حماس الجماهير، وكاد البطل الجديد يُسحق تحت أقدام المحتفلين.
فتح هذا التتويج الباب أمام فرص عديدة لبايسيليو، لكنه ما زال مضطرًا للتعامل مع سيطرة IBC على أهم الأسماء بين وزني الخفيف والمتوسط.
بدلًا من ملاحقة نزالات ضخمة، خاض بايسيليو نزالين غير رسميين قبل أن يمنح دي ماركو نزالًا ثأريًا في نوفمبر.
كان العديد من المحللين، بمن فيهم مسؤولو مجلة ذا رينج ، يعتبرون النزال الأول مرشحًا قويًا للقب "نزال العام"، لكن النزال الثاني تفوّق عليه بشكل مذهل.
أقيم النزال في بوسطن غاردن، مسقط رأس دي ماركو، ومع ذلك قدّم الاثنان ملحمة قتالية فريدة نالت جائزة "نزال العام" رسميًا.
كان دي ماركو يفضّل القتال من المسافة المتوسطة، بينما كان بايسيليو أخطر في القتال القريب.
وفي النزال الثاني، كرّر دي ماركو الخطأ نفسه الذي ارتكبه سابقًا، إذ بذل جهدًا مبكرًا يفوق الحد المطلوب.
ورغم أنه أنهك بايسيليو في الجولتين الثالثة والرابعة، فإن الأخير صمد.
في الجولة الخامسة، أصاب دي ماركو بايسيليو بهوك أيسر أعاده إلى الزاوية، وكادت القاعة المليئة بـ13,300 متفرج أن تشتعل مطالبة بالإيقاف، لكن بايسيليو صمد حتى الجرس.
وقال بعد النزال:
"بعد الجولة الخامسة، عندما أصابني دي ماركو لكنه لم يستطع متابعة الضغط، تيقّنت أن نفاد طاقته أصبح مسألة وقت لا أكثر."
وتعرّض بايسيليو لسيلٍ متواصل من الضربات في الجولتين السادسة والسابعة، حتى اهتزّت ركبتاه، وازداد الموقف سوءًا في الجولة الثامنة، إلا أنه رفض السقوط أو الاستسلام.
وفجأة، في الجولة التاسعة، نفدت طاقة دي ماركو تمامًا.
وبدأ بايسيليو بالهجوم على الجسم، ومع غياب ردة الفعل لدى دي ماركو، أصبح الأخير في وضع خطير.
وحاول دي ماركو الصمود في ما تبقّى من الجولات أملاً في الوصول إلى قرار الحكّام، في حين كان بايسيليو يواصل استهداف جسده لكمةً تلو الأخرى.
وفي الجولة 12، وجّه بايسيليو أكثر من 20 لكمة متتالية جعلت دي ماركو يتمايل في الحلبة، قبل أن يسقط على الأرض وسط ذهول الجماهير.
نهض بصعوبة، فقط ليتلقى مجموعة جديدة من الضربات.
وتدخّل الحكم لإيقاف النزال، إلا أنه تأخّر قليلًا، إذ سبقت قراره لكمةٌ أخيرة أسقطت دي ماركو أرضًا على وجهه.
في عام 1955، خاض الأبطال 13 نزالًا على الألقاب فقط، وهو رقم متدنٍّ للغاية.
وكانت الرياضة تحتاج إلى شرارة تعيد الثقة للجماهير بعد سنوات من الفساد والتدخلات المشبوهة.
وكان نزال بايسيليو – دي ماركو الثاني هو هذه الشرارة:
لا قرار مثير للجدل
لا حكم متحيز
لا تدخل خارجي
لا نفوذ للـIBC
فقط قتال صادق خالص، بدا وكأنه يعيد تعريف معنى الملاكمة النزيهة.
ولاحقًا، كان بايسيليو أحد الملاكمين الذين أدلوا بشهاداتهم أمام لجنة تابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي بشأن الفساد في الملاكمة—وهي شهادات أسهمت في إنهاء نفوذ "الأخطبوط" إلى الأبد.