في الأسبوع الماضي، توافد 128 ملاكمًا مع فرقهم إلى مدينة الرياض للمشاركة في النسخة الافتتاحية من بطولة WBC الكبرى للملاكمة. و وفقًا لما تم تداوله، كانت هذه البطولة حلمًا راود الراحل خوسيه سليمان، مؤسس مجلس الملاكمة العالمي (WBC)، و قد تحقق على يد ابنه موريسيو بالتعاون مع تركي آل الشيخ و موسم الرياض. لقد كانت مغامرة طموحة و غير مسبوقة في عالم الملاكمة.
تنظيم 64 نزالًا ضمن أربع فئات وزنية خلال أربعة أيام، و بثّها عالميًا، كان تحديًا هائلًا بحد ذاته. لكن البطولة لم تكتفِ بذلك، بل قدّمت أيضًا مفاهيم حديثة و غير تقليدية في سبيل جعل النزالات أكثر تشويقًا، و الأهم من ذلك، أكثر عدالة.
ومن الناحية الفنية، تُشبه هذه البطولة إلى حد كبير "معسكرات استكشاف المواهب" في دوري كرة القدم الأمريكية (NFL) أو دوري الهوكي الوطني (NHL)، و لكن بنسختها الخاصة بعالم الملاكمة. فقد ضمّت المنافسات ملاكمين لم يتجاوزوا 26 عامًا، غير مرتبطين بأي من المروّجين الكبار، مما جعل منها فرصة فريدة لاستكشاف جيل جديد من الملاكمين بعيدًا عن الأطار التجاري التقليدي.
و قد مثّلت الجولة الأولى من البطولة نافذة تطل على مستقبل الملاكمة، سواء من حيث جودة المواهب أو الشكل البنيوي الجديد للبطولات. و من خلالها، برزت خمس حقائق رئيسية تعكس الاتجاه الذي قد تسلكه هذه الرياضة في السنوات المقبلة.
1. الملاكمون يريدون القتال فعلًا
غالبًا ما يُنتقد الملاكمون المعاصرون بأنهم يتفادون المخاطر. و هذا النقد مفهوم عند النظر إلى المسار التقليدي للموهوبين الجدد، حيث يخوضون نزالات ضد خصوم "مُختارين بعناية"، هدفها التدريب و ليس التحدي.
لكن بطولة WBC الكبرى أثبتت العكس. إذ قبل ما يقرب من 132 ملاكمًا – العديد منهم بلا هزائم – خوض نزالات ضد ملاكمين آخرين في وضع مشابه، دون معرفة هوية خصومهم حتى قبل يومين من النزالات. و في حالات الاستبدال الطارئة، تم الإعلان قبل وقت أقل من ذلك.
كل ملاكم وافق ضمنيًا على مواجهة أي من 31 خصمًا محتملًا في فئته، سواء كانوا أولمبيين، أبطالًا وطنيين، أصحاب قبضة قوية، أو حتى أصحاب الأساليب غير المرغوبة. و رغم وجود حوافز مالية مجزية، إلا أن الكثيرين خاطروا بسجلاتهم الخالية من الهزائم.
2. الخسارة لم تعد نهاية الطريق
بنهاية الأسبوع، خسر 64 ملاكمًا. و مع ذلك، لم تكن الخسائر الموضوع الأبرز في الرياض. على العكس، أصبحت أمرًا طبيعيًا، و لم تُعتبر فضيحة أو دلالة على انكشاف مستوى الملاكم .
بل إن بعضهم، مثل كريزاليتو بيلتران، خرج بمكانة أعلى رغم الخسارة أمام آلان ديفيد كرينز في نزال عنيف من ست جولات. كما نال الملاكم البوسني العملاق ديلان رايتش، رغم خسارته في أول نزال احترافي له أمام بطل أوكرانيا في الهواة، احترامًا كبيرًا بفضل أدائه القتالي الشرس.
3. المواهب غير الموقعة منتشرة حول العالم
رايتش كان واحدًا من ثلاثة ملاكمين بوسنيين شاركوا في اليوم الرابع من البطولة، و قد حقق زميلاه، علي ميسيتش و أحمد كرنجيك، انتصارات رائعة بالضربة القاضية، مما ساهم في لفت الأنظار إلى واقع رياضة الملاكمة في البوسنة و الهرسك. و في السياق ذاته، برز الأردني محمد عيسى بأداء لافت تُوّج بفوز قوي نال استحسان الجماهير السعودية، بينما خطف الفنلندي حاجي موهيس الأنظار و القلوب على حد سواء بقصته المؤثرة؛ إذ دخل البطولة من دون أي دعم يُذكر، لكنه خرج منها بانتصار غيّر مجرى مسيرته، إلى جانب مكافأة مالية محترمة، كما كشف بتأثر في حديثه بعد النزال.
العديد من هؤلاء الملاكمين يجدون أنفسهم محصورين في دوائر محلية تفتقر إلى الدعم المالي و اللوجستي، مما يدفعهم لبناء سجلات نزال قد يُنظر إليها بشك أو تقليل، لا لكونها مزيفة، بل لأنها ببساطة ناتجة عن محدودية الخيارات المتاحة. و قد جاءت بطولة WBC الكبرى لتمنحهم ساحة متكافئة، استطاعوا من خلالها أن يكشفوا عن قدراتهم الحقيقية و يثبتوا جدارتهم على المستوى الدولي.
4. الإعادة الفورية في الملاكمة أمر ممكن
واحدة من أبرز الابتكارات في البطولة كانت الإعادة الفورية لمراجعة اللقطات الحاسمة، مثل السقوط أو الجروح. بعد كل جولة، يعاين مسؤولو WBC اللقطة محل الجدل بالتعاون مع البث التلفزيوني (DAZN) لتأكيد القرار أو تعديله.
حتى في الحالات التي لا تؤثر فيها اللقطة على نتيجة النزال، أُجريَت المراجعة لأغراض التوثيق و المحاسبة. و هذا ما أكده موريسيو سليمان، حيث اعتبرها وسيلة لتقييم الحكام و إضفاء مزيد من الشفافية.
و لعل من أبرز التحديات التي تعيق تعميم هذه الميزة على نطاق عالمي هو ضرورة وجود شراكة مع جهات بث تمتلك التجهيزات التقنية المتقدمة. و مع ذلك، فإن مثل هذه الإمكانيات ليست بعيدة المنال في النزالات الكبرى، حيث تتوفر عادة تجهيزات تقنية متقدمة و شبكات إعلامية قادرة على تنفيذ هذا النوع من التقنيات بسلاسة.
5. التعديلات على نظام النقاط تجعل الملاكمة أفضل
طال الجدل طويلًا حول نظام النقاط المفتوح، حيث تُكشف النتائج للملاكمين بعد جولتين و أربع. المؤيدون يرونه محفّزًا على التحسن، و المعارضون يخشون من أن يختار الملاكم المتقدم "إضاعة الوقت" للحفاظ على تفوقه.
لكن خلال أيام البطولة، لم يُلاحظ أي مثال على هذا السلوك السلبي. بل على العكس، استخدم بعض الملاكمين– مثل موهيس – هذه المعلومات لتغيير استراتيجياتهم و تحقيق نتائج أفضل.
بالإضافة لذلك، اعتمدت البطولة نظام التقييم المعزز، حيث يُطلب من الحكام تصنيف كل جولة وفقًا لمدى تفوق أحد الملاكمين (متقاربة، متوسطة، حاسمة، حاسمة جدًا)، مما يمنح الأفضلية للملاكم الذي حقق جولات أكثر تفوقًا في حال التعادل بالنقاط.
بطولة WBC الكبرى للملاكمة لم تكن مجرد حدث رياضي، بل كانت نافذة تطل على مستقبل أكثر عدالة، احترافية، و متعة في رياضة الملاكمة. من الإبداع في التنظيم، إلى العدالة في التقييم، إلى تسليط الضوء على المواهب المهمّشة، يمكن القول إن الرياض شهدت بداية ثورة حقيقية في عالم القتال النبيل.