نظرًا لأن الترويج في عالم الملاكمة يتحوّل بسهولة إلى مبالغة، فمن الطبيعي أن يظن الكثيرون أن النزالات الكبرى تحدث باستمرار.

فعلى سبيل المثال، عبارة "نزال القرن" استُخدمت أكثر من مرة خلال المئة عام الماضية.

والواقع أن النزالات المميزة تحدث باستمرار، وأن المواجهات الكبيرة تظل ضرورة لدفع رياضة الملاكمة إلى الأمام، لكن المواجهات الأسطورية بحق نادرة الوجود. ومع ذلك، يدرك عشاق الملاكمة تمامًا ذلك الإحساس الفريد الذي يرافق اقترابها؛ ففي البداية لا يبدو الأمر واقعيًا تمامًا، حتى يصبح النزال على بُعد أيام معدودة، وحينها يبدأ ذلك الزحف البطيء والمميز نحو الموعد المنتظر.

قبل شهر واحد من النزال المرتقب في وزن فوق المتوسط بين كانيلو ألفاريز وتيرينس كروفورد، والمقرر إقامته في 13 سبتمبر بمدينة لاس فيغاس عبر منصة نتفليكس، بدأ ذلك الشعور المألوف بالشوق والانتظار يتصاعد شيئًا فشيئًا.

مع انتشار تطبيقات البث والمنصات الرقمية، فقدت الملاكمة منصتها التقليدية الواضحة، وكثيرًا ما بدا المشهد وكأنه يفتقر إلى دفة قيادة في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، يظل هناك عامل واحد قادر على جمع الجماهير وتوحيدها — سواء كان بدافع الشغف أو حتى الجدل — وهو النزال الكبير.

مواجهة كانيلو–كروفورد تُعدّ أكبر نزال يمكن أن تقدّمه الملاكمة حاليًا في الفئات دون الوزن الثقيل، وهو وصف ليس بالهيّن. فأربعة من بين أكبر عشرة نزالات في تاريخ الإيرادات جرت في الوزن الثقيل، فيما كان معظم البقية من نزالات فلويد مايويذر جونيور. لمجرّد الاقتراب من هذا المستوى، فهذا يعني أن الملاكمين المعنيين من أضخم النجوم وأكثرهم براعة، ولا شك أن ألفاريز و كروفورد يُعدّان من أبرز وأهم الأسماء في عالم الرياضة اليوم.

في عام 2010، كان ألفاريز (63 انتصارًا، هزيمتان، تعادلان، 39 فوزًا بالضربة القاضية) يحتل المراتب الدنيا في تصنيف مجلة ذا رينج في وزن المتوسط الخفيف. دخل تصنيف الملاكمين الأفضل "باوند فور باوند" للمجلة بعد ثلاث سنوات، ومنذ ذلك الحين واجه نخبة من الملاكمين بين أوزان 154 و168 رطلاً. يتمتع ألفاريز برفاهية اختيار خصومه وتوقيت نزالاته، ومع ذلك فإن سجله يعد من الأغزر والأقوى في العصر الحديث.

ورغم أن وزن المتوسط الخفيف و وزن فوق المتوسط يفصل بينهما 14 رطلاً فقط، فإن قلة من الملاكمين تمكّنوا من اجتياز العقبة الصعبة التي يمثلها الانتقال عبر فئة الوزن المتوسط الفاصلة بينهما. قدرة ألفاريز على فعل ذلك تذكّر بإنجازات "شوجر" راي ليونارد وتوماس هيرنز، اللذين فعلا الأمر نفسه، بل وتوجا نفسيهما أيضًا بألقاب في الوزن الثقيل الخفيف.

التقسيمات الوزنية المستحدثة وقواعد اللعبة الحالية تجعل إنجازات كثير من الملاكمين المعاصرين غير قابلة للمقارنة بعهود سابقة، حين كانت الملاكمة تبدو وكأنها رياضة مختلفة تمامًا. على سبيل المثال، حمل هنري أرمسترونغ ألقاب ثلاث فئات وزنية في آن واحد، وهو أمر غير ممكن تقريبًا اليوم. لكن إنجازات ليونارد وهيرنز تعود إلى أكثر من 40 عامًا وما زالت حاضرة في الذاكرة.

اليوم يبلغ ألفاريز 35 عامًا، ويحترف منذ 20 عامًا، وهو في مرحلة إما أن يضيف فيها أساليب جديدة إلى ترسانته أو أن يبتعد عن اللعبة. في هذا العمر، يُعد أي إنجاز يحققه علامة مميزة، كما أن استمراره في القمة لهذه المدة يُعد أطول من كامل مسيرة كثير من الملاكمين .ولولا ما يبدو أنه فارق كبير في الحجم لصالحه، لكان ترشيحه للفوز على خصمه المقبل أمرًا شبه محسوم.

أما "باد" كروفورد (41 فوزًا دون أي هزيمة، 31 منها بالضربة القاضية)، فقد بلغ هذه اللحظة الفارقة عبر مسار أكثر تقليدي.

فبينما شق ألفاريز طريقه بسرعة مستفيدًا من سمعته كموهبة استثنائية، نشأ كروفورد في إطار النظام الهاوي الأمريكي منذ صغره، وكانت صالة الملاكمة بالنسبة له ملاذًا من فوضى محيطه. سرعان ما برز وتفوّق حتى أصبح بطلًا وطنيًا في بطولة الشرطة الوطنية للهواة، وتمكّن من هزيمة عدد من الأبطال المستقبليين.

بدأ مسيرته الاحترافية بـ 19 انتصارًا متتاليًا، وصبر وهو يخوض نزالات تمهيدية بانتظار الفرصة الكبرى. وجاءت هذه الفرصة أمام الملاكم الكولومبي القوي بريديس بريسكوت، قبل أسبوع واحد فقط من النزال، وفي وزن أعلى من فئته الطبيعية. استغل كروفورد الفرصة على أكمل وجه، إذ تفوق على بريسكوت تمامًا في نزال أُقيم ضمن البطاقة الرئيسية لنزال الإعادة بين مايك ألفارادو وبراندون ريوس، ومن هناك انطلق بلا عودة إلى الوراء.

ذلك الفوز فتح الباب أمامه لنزال على لقب ثانوي، قاده إلى التتويج ببطولة العالم في الوزن الخفيف أمام ريكي بيرنز عام 2014. ومنذ ذلك الحين، كانت جميع نزالات كروفورد على ألقاب عالمية، وتمكّن من توحيد ألقاب وزني الويلتر الخفيف و الويلتر. وعلى الورق، كان المسار الطبيعي يقوده لوراثة مكانة نجم وزن الويلتر من ماني باكياو، لكن الاعتبارات الترويجية أبعدته عن النجومية، واضطر مجددًا لشق طريقه بنفسه.

منحته منافسته مع إيرول سبنس جونيور خصمًا جماهيريًا واضحًا، لكنه سرعان ما أطاح به بأداء ساحق. والمفارقة أن هذا الانتصار رفعه إلى مستوى لا يُمكن الاقتراب منه في وزن الويلتر، ما جعله مضطرًا للصعود إلى فئة أعلى. وكان نزاله الوحيد في العامين الأخيرين أمام إسرائيل مادريموف، الذي فاز عليه ليحصد لقب وزن الويلتر الخفيف، ويصبح بطل العالم في أربع فئات وزنية.

تشبه مسيرة كروفورد إلى حد كبير مسيرة أحد "الملوك الأربعة" في الثمانينيات، الأسطورة البنمية روبرتو دوران، الذي بدأ بطلاً في الوزن الخفيف قبل أن يحصد لقب وزن المتوسط على مدار عقد من الزمن، بل وتخطى وزن الويلتر الخفيف ليواجه ليونارد في نزالهما الأول التاريخي. واليوم، يسلك كروفورد نهجًا مشابهًا، متجاوزًا وزن المتوسط لملاقاة النجم الأبرز ألفاريز.

وكما حدث مع دوران حين واجه إيران باركلي، يجد كروفورد، البالغ من العمر 37 عامًا، نفسه اليوم أمام نظرات تشكك تقلل من فرصه.

مواجهة كانيلو–كروفورد لم تكن على رادار الكثيرين قبل إعلانها، لكنها تمزج بين قوة النجومية وجاذبية الأسلوب. نادرًا ما يتقارب ملاكمان من قمة تصنيف "باوند فور باوند" في الوزن بما يكفي لخوض نزال، والأندر أن يكونا أيضًا في ذروة عطائهما بحيث يكون النزال ذا قيمة حقيقية.

إنها لحظة تسلّل فيها القدر بهدوء، وربما باغتت الملاكمين نفسيهما قبل أن يدركها أي شخص آخر.

في الرياضات الأخرى، هناك دائمًا مباراة تالية، أو أسبوع مقبل، أو موسم جديد. لكن في الملاكمة، يظل شبح النهاية الحاسمة حاضرًا دائمًا، ولا يوجد أي ضمان لفرصة ثانية. كل خطوة في مسيرة ألفاريز وكروفورد قادت إلى هذه اللحظة. وقد بدأ بالفعل العد التنازلي نحو نزال كانيلو–كروفورد.