ما إن أُعلن أن
مارفن “مارفيلوس” هاغلر سيخوض دفاعه السابع عن لقب الوزن المتوسط أمام الأسطورة
روبرتو دوران، حتى انصبت الأنظار مباشرةً على التناقض الصارخ بين البطلين.
الوزن المتوسط في مواجهة الوزن الخفيف، الأمريكي في مواجهة غير الأمريكي، الرجل الشعبي في مواجهة نجم الإعلام.
أما فكرة الترويج لنزالٍ يجمع ملاكمين يمران بظروفٍ متشابهة، فلم تكن لتجذب الأنظار كما يفعل هذا الصدام بين عالمين.
لكن الحقيقة أن دوران — رغم شهرته التاريخية في وزن الخفيف — كان بعيدًا تمامًا عن وزن 135 رطلاً بحلول نوفمبر 1983، بينما أصبح لهاغلر قاعدة جماهيرية خاصة به.
الاختلاف في الجنسية لم يكن مهمًا بقدر ما كان اللقاء بين ملاكمين عدوانيين، اعتاد كل منهما أن يتحدث بلغة العنف العالمية داخل الحلبة. كلاهما كان بحاجة إلى أداءٍ استثنائي يُعيد تأكيد مكانته.
قبل أربع سنوات، عام 1979، بينما كان دوران ينازل ملاكمين في وزن الويلتر سعيًا لمواجهة “
شوجر” راي ليونارد،
خاض هاغلر نزالًا مثيرًا للجدل انتهى بتعادلٍ مخيّب أمام البطل آنذاك فيتو أنطوفرمو في لاس فيغاس.
بعد النزال، اقترب منه جو لويس — بطل الوزن الثقيل الأسطوري الذي كان على بعد عام ونصف فقط من وفاته عن عمر 66 عامًا — وقال له:
“لقد فزت بذلك النزال... لا تستسلم.”
عاد هاغلر إلى الصالة التدريبية في اليوم التالي مباشرة، وقال:
“كل ما حدث سيجعلني أكثر قسوة... سيجعلني أصلب.”
وبالفعل، خلال السنوات الأربع التالية حقق 11 انتصارًا متتاليًا، ولم يصمد أمامه سوى خصمٍ واحد حتى النهاية.
توقف عن العمل في البناء، وبدأت الصحف تصفه بـ“البطل غير المتوّج في وزن المتوسط”.
هاغلر أطاح بمعظم خصومه قبل التتويج، ثم نظّف الفئة بأكملها بعدها — بما فيهم أنطوفرمو نفسه.
لكن رغم إنجازاته، كانت المواجهات الكبرى لا تزال تفلت من يده.
بعد أولمبياد مونتريال 1976، شهدت الملاكمة الأمريكية انتعاشًا كبيرًا، وكان “شوجر” راي ليونارد نجم المرحلة.
لكن دوران بلغ قمّة مجده حين هزم ليونارد في 1980، قبل أن يسقط أمامه في إعادةٍ شهيرة عُرفت بعبارة “نو ماس – لا مزيد”، حين انسحب دوران فجأة من القتال.
ثم تراجعت مسيرة دوران بعد ذلك، إثر هزيمتين أمام ويلفريدو بينيتز وكيركلاند لينغ عام 1982.
حتى عاد إلى الأضواء مجددًا في 1983 بفوزٍ ساحق على الشاب الواعد ديفي مور،
حين أطاح به بوحشية وانتزع لقب الـWBA في وزن السوبر ويلتر.
ومع ذلك، لم تخلُ تلك الليلة من الملاحظات — فقد كانت خبرة دوران تفوق مور كثيرًا، ولم يتردّد في تجاوز القواعد أحيانًا.
ولإثبات قدرته الحقيقية في وزنٍ أعلى، كان عليه مواجهة خصمٍ من طراز هاغلر.
لذلك عندما أعلنت شركتا توب رانك ومين إيفنتس سريعًا عن بدء مفاوضاتٍ لنزال هاغلر–دوران، بدا القرار غامضًا لكثيرين.
كان هاغلر المرشّح الأوفر حظًا بنسبة تراوحت بين 3 إلى 1 و 4 إلى 1.
بلغت مكافأته القياسية 5 ملايين دولار، مقابل 1.5 مليون لدوران.
لكن وراء المال، كان كلٌّ منهما يسعى إلى إثبات ذاته أمام العالم، وكانا على يقينٍ أن أداءً باهتًا لن يُغفر لهما.
أما هاغلر، فكان عليه ضغطٌ إضافي ليُظهر تفوّقه الواضح على خصمٍ أصغر حجمًا.
توقّع الخبراء أن يلجأ دوران إلى القتال القريب داخل المسافة،
لكن الجولات الأولى جاءت تكتيكية بامتياز.
هاغلر استخدم جابه الطويل والحاد، بينما اعتمد دوران على جابٍ سريعٍ وخاطف لإيقاف تقدّم خصمه لا لإيذائه.
كلاهما وجّه ضرباتٍ فعّالة: هاغلر بيسراه اليسارية القوية من وضعية الساوثبو، ودوران بيمناه المرتدة.
التحم دوران بالجسد عدة مرات، لكن دفاع هاغلر منعه من توجيه الضرر الكامل.
العرض داخل الحلبة عكس شخصيتيهما تمامًا:
أدى هاغلر أداءً منظمًا ودقيقًا، في حين قدّم دوران لحظاتٍ من القوة والانفجار أشعلت الجماهير.
كان دوران بارعًا في كسر إيقاع خصومه وإجبارهم على القتال في اللحظة التي يختارها —
وهو ما اختبره هاغلر مبكرًا في النزال.
مع نهاية الجولة الرابعة، ظهرت علامات التورم على خدّ هاغلر الأيسر.
لكن السيطرة كانت له حتى الجولة الخامسة، حين باغته دوران بسلسلة من اللكمات اليمنى بعد أن غيّر هاغلر وقفته إلى الأرثوذكسية.
في الجولة السادسة، تحققت رغبة الجمهور أخيرًا بمواجهةٍ مفتوحة؛
عاد هاغلر إلى وضعيته التقليدية، وانهال على دوران بوابلٍ من اللكمات المتوسّطة المدى.
لكن “اليد الحجرية” امتصّ الضربات وردّ بعنف قبل الجرس.
في الجولة السابعة، مدّ دوران يده كما لو كان يستخدم إبهامه داخل الجاب،
ردّ عليه هاغلر بموجةٍ من اللكمات جعلته يتراجع حتى نهاية الجولة.
تراجع الإيقاع قليلًا في الجولتين الثامنة والتاسعة،
فتذكّر البعض تعثر هاغلر القديم أمام أنطوفرمو.
ومع ذلك، قاتل دوران بلا خوف، وأدرك أن البطل لا يستطيع الحفاظ على ضغطه المستمر،
فبدأ يقاتله ندًا بندّ.
في الجولة العاشرة، قطع هاغلر الطريق على دوران ومنعه من حصد أي جولةٍ بسهولة،
مهاجمًا بضراوة بينما أظهر دوران شجاعةً مذهلة،
لكنّ ضربات هاغلر كانت أقسى وأدقّ.
وفي الجولة الحادية عشرة، بدأ الجمهور يطلق صيحات الاستهجان عندما لجأ هاغلر إلى التراجع لتجنّب الالتحام.
أثار ذلك انتقاد فريقه، فبدأ الجولة الثانية عشرة بهجومٍ شرسٍ ومنظّم.
وردّ دوران بضرباته الخاصة، فاشتعلت القاعة من جديد.
وفي لحظةٍ خاطفة، وجّه دوران أبر كات يمينية مدهشة، ثم سخر من البطل بابتسامة،
لكن تورّم عين هاغلر ازداد سوءًا قبل نهاية الجولة.
واصل دوران استفزاز خصمه خلال الجولة الثالثة عشرة،
بينما حذّره مدربه غودي بيتـرونيلي قائلًا: “أنت تُخاطر بخسارة اللقب، عد للقتال الآن!”
وبالفعل، ظهر “الجندي هاغلر” في الجولتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة،
ضاغطًا بلا رحمة، متجاهلًا سخرية دوران، ومفككًا دفاعه حتى النهاية.
عند الجرس الأخير، لوّح هاغلر بقفازه نحو دوران باستهزاءٍ، وكأنه يقول ضمنيًا: "انتهيت من هذا الرجل."
المثير أن هاغلر احتاج فعلًا إلى الجولتين الأخيرتين ليحسم اللقب،
فبعد الجولة الثالثة عشرة كان دوران متقدمًا على بطاقتين، والثالثة متعادلة.
وفي المؤتمر الصحفي، كان السؤال الأول الذي وجّهه الصحفيون إليه:
“لماذا لم تُنهِ دوران بالضربة القاضية؟”
تحوّل السؤال إلى عنوانٍ دائم للنزال، وأصبحت الشكوك تحيط بأداء هاغلر رغم فوزه.
في عددها الأخير الذي حرّره قبل رحيله، وصف بيرت شوغر — رئيس تحرير مجلة ذا رينج حينها — أداء هاغلر بعبارة “مارجنال مارفن”،
بينما قالت مجلة Sports Illustrated إن أداءه كان “أقل من رائع”.
أما دوران، فرفض الهزيمة ووصف هاغلر بالجبان الذي “خاف من القتال الحقيقي ولم يتمكن من إيذائه”،
مستفيدًا من الاهتمام الإعلامي لينال مواجهة كبيرة أمام
توماس هيرنز،
الذي أطاح به سريعًا وأوقف زخم عودته،
ليغيب دوران بعدها عن الحلبة لأكثر من عام.
لم تكن الضربات التي تلقّاها الطرفان في ذلك النزال كافية لتُحدث أثرًا مباشرًا في مسيرتيهما.
لكنّ كليهما دخل بعدها في مرحلة انحدارٍ تدريجي بعد أكثر من عقدٍ من القتال المتواصل.
ومع ذلك، يبقى الزمن كريمًا مع العظماء الذين قدّموا الإثارة للجماهير.
فـ نزال هاغلر – دوران لم يكن حربًا مفتوحة، بل معركة ذهنية وفنية عالية المستوى،
جمعت بين التكتيك والقوة، وجسّدت روح حقبة “الملوك الأربعة” —
هاغلر، دوران، هيرنز، وليونارد —
التي لا تزال حتى اليوم تُجسِّد معنى المجد في عالم الملاكمة الحديثة.