انقضى اليوم 135 عامًا على ميلاد جاك ديمبسي، ولا تزال أصداء الأثر العميق الذي أحدثه تتردد حتى يومنا هذا. وُلد باسم ويليام هاريسون ديمبسي، ويُعد من أوائل من ساهموا في إحداث تغييرات جوهرية في قواعد رياضة الملاكمة. وفي حقبة زاخرة بالنجوم الرياضيين، برز ديمبسي كأحد أعظمهم، متربعًا على عرش الوزن الثقيل، وجاذبًا لحشود جماهيرية غير مسبوقة، كسرت المفاهيم التقليدية بشأن العائدات الممكنة من تنظيم الأحداث الرياضية. بل إن أحد أنواع الأسماك الشرسة حمل اسمه تخليدًا لشهرته وتأثيره.

عرف ديمبسي خلال حياته بعدة ألقاب: أولاً "هاري"، ثم "كيد بلاكي"، ولاحقًا "جاك ديمبسي" تيمنًا ببطل الوزن المتوسط في القرن التاسع عشر، وأخيرًا اللقب الذي خُلد به: "مُفتَرس ماناسا" (The Manassa Mauler). لاحقًا، أصبح يُعرف بـ"القائد ديمبسي"، وفي نهاية المطاف، اكتفى الجميع بمناداته بلقب "البطل".

وقليل من ألقاب الملاكمة كانت ملائمة بقدر لقب "مُفتَرس ماناسا". فقد كان ديمبسي المحارب الذي لا يكلّ من ماناسا، كولورادو، الذي شق طريقه بقبضتيه من معسكرات المتشردين إلى قمة الملاكمة، ثم إلى قلوب الأميركيين في منازلهم. لقد كان تجسيدًا للكفاح الأميركي.

واحدة من مزايا ألقاب الملاكمة أنها يمكن أن تكون ساخرة أو مرعبة، مباشرة أو بلا صلة واضحة، لكن الأمر الوحيد الأكيد هو أنك لا تختار لقبك؛ بل يمنحك إياه الآخرون.

ويُقال إن الكاتب الأسطوري دامون رونيون هو من أطلق على ديمبسي لقب "مُفتَرس ماناسا"، رونيون الذي صاغ العديد من العبارات التي لا تزال تُستخدم بعد قرن، وكان اختياره دقيقًا لدرجة أن وسائل الإعلام تبنّته فورًا قبل نزال ديمبسي أمام جيس ويلارد عام 1919.

في عصرنا الحالي، حيث أصبحت الملايين أمرًا معتادًا، يمكن لأي شخص أن يجني بعض المال، ويبيع التذاكر، ويدّعي أنه أحدث ثورة في اللعبة.

لكن الحقيقة هي أنهم يسيرون في طرق سبق أن سلكها جاك ديمبسي أولاً.

ولم يكن الأمر يقتصر على أن ضربة ديمبسي القاضية لجورج كاربانتييه – بطل وزن خفيف الثقيل – خلال دفاعه عن لقبه، أنتجت أول نزال في تاريخ الملاكمة يتخطى عائد بوابته المليون دولار. بل إن الحدث نفسه كان لحظة عالمية، في وقت نادرًا ما اجتمع فيه 90 ألف شخص في مكان واحد. ملايين الناس حول العالم ترقّبوا أخبار النزال.

بعضهم تمكن من سماعه عبر الراديو في أول بث جماهيري واسع، بينما تجمع الآلاف أمام مكاتب الصحف في مدن أميركية عديدة لقراءة النتائج المكتوبة على الألواح أو المناداة بها عبر مكبرات صوتية. في باريس، أُبلغ الفرنسيون بهزيمة كاربانتييه عبر طائرات عسكرية ضخمة أطلقت أضواءً بيضاء ودخانًا أبيض فوق ميدان "بلاس دو لا كونكورد".

ومع كل محطة من مسيرته، تخطى ديمبسي حدود ما حققه سابقًا.

في عام 1921، أطاح بكاربانتييه في حلبة صُممت خصيصًا للنزال، ثم في عام 1923 كاد أن يتسبب في انهيار مدينة شيلبي بولاية مونتانا بعد فشل منظّمي النزال في تغطية التكاليف، وهو أمر لم تتعافَ منه المدينة تمامًا حتى اليوم.

ثم جاء نزال ديمبسي ضد الملاكم الأرجنتيني لويس أنخيل فيربو، والذي تحوّل إلى أيقونة رغم هزيمته خلال جولتين مليئتين بالإسقاطات. مجرد مواجهة فيربو لديمبسي بشجاعة كانت كافية لتخليده، وقد عاش طيلة حياته من تلك الدقائق الأربع.

وبعد غيابٍ دام ثلاث سنوات عن الحلبة، عاد ديمبسي ليصبح أكثر حضورًا وجاذبية من أي وقت مضى، إذ شهدت عودته مواجهة ضد جين تاني حضرها أكثر من 120 ألف متفرج رغم الأجواء العاصفة، وانتهت بخسارته للقب. وبلغت عائدات النزال آنذاك 1.8 مليون دولار من مبيعات التذاكر، وهو رقم تحطّم لاحقًا في نزال الإعادة عام 1927، الذي حقق إيرادات قياسية بلغت 2.8 مليون دولار

تلك الهزيمة أقنعته بالاعتزال. وربما ما كان ليخوض عشرات النزالات الاستعراضية في الأربعينيات من عمره لولا خسارته ثروته في انهيار سوق الأسهم عام 1929. ورغم اعتزاله الملاكمة، ظل نشطًا في الحلبات كحكم رسمي حتى بلغ السبعين، وأدار أكثر من 400 نزال محترف قبل أن يبتعد نهائيًا.

اللافت أن ديمبسي خاض فقط 8 نزالات احترافية خلال ذروة شهرته، لذا فإن تأثيره خارج الحلبة لا يقل أهمية عن إنجازاته داخلها.

عقب فشله في الانضمام إلى الجيش خلال الحرب العالمية الأولى، لاحقت ديمبسي تهمة 'التخلف عن أداء الواجب العسكري'، وهي تهمة ظلّت تؤثر سلبًا على صورته أمام الرأي العام، لا سيما بالمقارنة مع عدد من منافسيه الذين خدموا في صفوف القوات المسلحة. ولذلك، حين دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، سعى ديمبسي إلى محو تلك الصورة، فبادر بطلب الانضمام إلى البحرية، قبل أن يُقبل لاحقًا في قوات خفر السواحل الأميركية.

لم تكن خطوة رمزية فقط، بل كانت ذات أثر معنوي، إذ رأى فيها ديمبسي تصحيحًا للخطأ، ورافعة لروح الجنود. الأهم من ذلك، أنه شغل منصب مدرب قتال بالأيدي، وشارك في تأليف كتاب تدريبي شهير بعنوان "كيف تقاتل بقوة"، ضم تقنيات فعالة في الاشتباك القريب لا تزال معتمدة حتى اليوم في الفنون القتالية المختلطة، وشاركه في الشرح أسطورة المصارعة برنارد كوسنيك.

لكن ما ميّز ديمبسي أكثر من أي شيء آخر، هو علاقته بالناس. صحيح أنه شارك في بعض الأفلام والمسرحيات، لكنها لم تكن جوهر ارتباطه بالجماهير. وعلى عكس أبطال الوزن الثقيل الذين اعتزلوا مبكرًا وذهبوا إلى عروض "الفودفيل"، كان ديمبسي يتجول، يصافح الناس، ويشاركهم اللحظة.

وبعد الحرب العالمية الثانية، أعاد افتتاح مطعمه في نيويورك تحت اسم "مطعم جاك ديمبسي في برودواي"، وظل مفتوحًا حتى عام 1974.

كانت الليالي هناك أشبه بحلم لعشاق الملاكمة: ديمبسي يستقبل الزبائن بنفسه عند الباب، نجوم السينما والرياضة يحتسون المشروبات ويتناولون الطعام، وصفقات تُعقد بين أبطال ومروجين سابقين ضمن أجواء لا تتكرر. حتى أعياد ميلاد الملاكمين القدامى كانت تُقام هناك. وكان سر المكان... وجود ديمبسي فيه.

لقد تعاقبت أجيال عديدة منذ أيام جاك ديمبسي، ومضى أكثر من أربعين عامًا على رحيله، وقريبًا لن يبقى بيننا أحد ممن حالفهم الحظ بمصافحة قبضته الأسطورية. ومع ذلك، كان ديمبسي من أولئك القلائل الذين يتركون وراءهم ظلًا طويلًا لا يزول... ظلًا يظل حاضرًا، حتى بعد مرور 135 عامًا على ميلاده.

عيد ميلاد سعيد في السماء، أيها البطل.