كانت ملاكمة الوزن الثقيل في تسعينيات القرن الماضي ظاهرة لا مثيل لها.

تميّزت تلك الفترة بدراما حقيقية صنعتها الملاكمة، لكنها كانت دراما أكثر صخبًا وجنونًا من أي وقت مضى، تعكس روح التسعينيات المليئة بالحماس والتوتر.

كانت النزالات الكبرى آنذاك تُعدّ حدثًا اجتماعيًا ضخمًا، يجتمع الناس لمشاهدته في المنازل أو الحانات، وغالبًا ما كانت هذه الأحداث تدور حول ملاكمة الوزن الثقيل التي خطفت الأضواء من كل الفئات الأخرى.

لكن ما يتذكره الناس عن ملاكمي التسعينيات اليوم، قبل أي شيء، هو الفوضى المطلقة — ولا يمكن المبالغة في ذلك. فقد كان ريديك بَو و إيفاندر هوليفيلد أبرز من جسّد تلك الفوضى.

عرفت كل حقبة من أبطال الوزن الثقيل شخصيات مثيرة أو مثيرة للجدل.

في القرن التاسع عشر مثلًا، لم يكن أحد متأكدًا مما إذا كان جون ل. سوليفان سيكون في حالة تسمح له بالقتال أم لا.

وفي بدايات القرن العشرين، كان فايرمان جيم فلين معروفًا بهزائمه المتكررة بسبب الاستبعاد وتصرفاته العنصرية.

أما في الثمانينيات، فقد امتلأت فئة الوزن الثقيل بملاكمين عانوا من اضطرابات سلوكية و مشاكل مع المخدرات، وهو ما مهّد الطريق للفوضى الأكبر التي انفجرت في العقد التالي.

في هذا المشهد، برز بَو وهوليفيلد كاثنين من أفضل ملاكمي التسعينيات، حيث أثبت كل منهما مكانته أمام الآخر وأمام أسماء مرموقة أخرى.

ورغم ذلك، كان كلٌّ من بَو وهوليفيلد يقدّمان أداءً باهتًا أحيانًا أمام خصوم أقل مستوى، وهو ما أضفى على نزالاتهما طابع المفاجأة وعدم القدرة على التنبؤ، وجعل كل مواجهة لهما حدثًا لا يمكن تفويته.

بعض أكثر اللحظات جنونًا في ذلك العقد حدثت خلال نزالات هوليفيلد وبَو، خصوصًا تلك الليلة الشهيرة عام 1993 عندما سقط رجل بمظلته داخل الحلبة أثناء نزال الإعادة على لقب العالم للوزن الثقيل.

رغم أن بَو لم يكن قد خاض بعد نزاليه الشهيرين ضد أندرو غولوتا، فإنه كان آنذاك يجذب الفوضى إليه أينما ذهب، وقد بلغ ذلك ذروته عندما واجه هوليفيلد للمرة الثالثة عام 1995.

في الوقت نفسه، كانت الجماهير تترقب عودة مايك تايسون في صيف 1995، وبعد فوزه السريع على بيتر مكنِيلي، عاد إلى صدارة مشهد الوزن الثقيل، وبدأت التوقعات بأن الفائز من بَو وهوليفيلد سيكون خصم تايسون التالي.

لم يكن غريباً أن تؤدي مواجهة ملاكمين متقلبين مثل بَو وهوليفيلد إلى نزالاتٍ عنيفة إلى أقصى حد.

فالنزال الأول بينهما عام 1992 كان ملحمة من 12 جولة حفلت بالضربات القاسية والإثارة الخالدة.

أظهر بَو قدرة استثنائية على القتال من المسافة القصيرة رغم حجمه الكبير، لكن قلب هوليفيلد وشجاعته سرقا الأضواء.

أما نزال الإعادة، فلم يكن أقل جنونًا — إذ حمل فوضاه الخاصة، ولم يكن ذلك فقط بسبب “الرجل الطائر” الذي هبط على الحلبة.

العائق الوحيد في نزال 1995 كان غياب اللقب عن الخط.

فقد خسر هوليفيلد أمام مايكل مورر وتم تشخيصه بمشكلة في القلب بعد نزاله الثاني مع بَو، بينما كان بَو يحاول التخلص من مشكلاته الشخصية قبل أن يحقق ثلاثة انتصارات متتالية.

كلاهما دفع ثمنًا صحيًا باهظًا في أول مواجهتين، لكن التقدم في العمر جعل الثالث أكثر بطئًا — وربما أكثر عنفًا أيضًا.

كتب نايجل كولينز في مجلة ذا رينج قبل النزال الثالث:

“يُعتبر بَو المرشح الأبرز للفوز، لكن ذلك لن يمنع عشاق الملاكمة الحقيقيين من المشاهدة، خاصة من شاهدوا النزالين الأولين.

صحيح أن بَو أصغر سنًا وأقوى وأقدر على الضرب، لكن هوليفيلد لطالما كان مليئًا بالمفاجآت.”

للمرة الثالثة على التوالي، دخل هوليفيلد الحلبة بفارق يقارب 30 رطلاً أقل من بَو، وهو ما شكّل جزءًا من جاذبية المواجهة.

ورغم ذلك، بدأ هوليفيلد النزال بنشاط لافت، ونجح في مجاراة بَو بالجاب خلال الجولة الأولى في قصر قيصر – لاس فيغاس، رغم فارق الطول والوزن الواضح.

في الجولة الثانية غيّر هوليفيلد استراتيجيته، لكن محاولته مهاجمة بَو بضربات عريضة فتحت المجال أمام الأخير ليستعيد إيقاعه ويُطلق الضربة الصاعدة المميزة التي يمتاز بها.

وعندما اختار هوليفيلد القتال عن قرب، تلقى ضربة خطافية قوية كادت أن تزعزع توازنه.

علق المعلق الشهير لاري ميرشانت قائلًا:

“لست متأكدًا مما يحاول إيفاندر هوليفيلد إثباته، لكني لا أظن أنه أثبته بتلك الاستراتيجية.”

في الجولة الرابعة، بدا هوليفيلد أكثر جرأة ونجح في تبادل مثير للكمات، لكن بَو عاد للسيطرة في الدقائق الأخيرة.

وفي الخامسة، أظهر بَو أداءه الكلاسيكي القديم، ممزوجًا بالضربات الجسدية القوية، لكنه تلقى تحذيرًا بعد ضربة منخفضة أفقدته نقطة.

وفجأة، بدا أن هوليفيلد قد استنفد طاقته تمامًا، بالكاد قادرًا على رفع يديه للدفاع عن نفسه.

لكن في الجولة السادسة، استجمع هوليفيلد شجاعته ونسي خوفه للحظة، ليطلق سلسلة من الضربات ختمها بخطاف أيسر هائل أسقط بَو أرضًا — في أول سقوط له خلال مسيرته الاحترافية.

نهض بَو مرتبكًا وأكمل الجولة بصعوبة، متلقيًا ضربات قوية لكنه نجا.

مع بداية الجولة السابعة، ظهرت علامات الإرهاق وتراكم المعارك القديمة على كلا الملاكمين، فتحوّل النزال إلى صراع جسدي عنيف أكثر منه تبادلًا للضربات.

ثم جاءت الجولة الثامنة لتشهد النهاية، حين اندفع بَو بعنفٍ غير معتاد وتمكّن من إسقاط هوليفيلد بضربة يمنى قصيرة المدى.

نهض هوليفيلد بصعوبة، لكنه سقط مجددًا بعد ضربتين قاسيتين، ليُوقف الحكم النزال على الفور معلنًا النهاية.

بعد المعركة، تبادل الملاكمَان كلمات الاحترام والمصارحة في المقابلات الصحفية، تمامًا كما فعلا في المؤتمر الذي سبق النزال.

“بصراحة، أنا أحب هذا الرجل… لكن لا بد أن أقضي عليه .”

ورغم أن كليهما واصل القتال بعدها، فإن بَو لم يعد أبدًا الملاكم نفسه.

أصبح اسمه يُذكر كواحدٍ من أعظم الملاكمين الذين تألقوا في فترة قصيرة ومكثفة، ونموذجًا للملاكم الذي احترق داخل الحلبة كما احترق خارجها.

أما هوليفيلد، فانتقل لاحقًا لمواجهة بوبي تشيز، قبل أن يخوض سلسلة النزالات المنتظرة ضد مايك تايسون، التي أعادت إحياء مسيرته جزئيًا رغم الجدل الكبير الذي أحاط بها.

كانت التسعينيات مرآةً لحقيقة الملاكمة — ذلك الصراع الأبدي بين مصلحة الملاكمين و رغبات الجمهور، اللتين نادرًا ما تتوافقان.

فالعنف الدائم والفوضى التي هيمنت على تلك الحقبة أنهكت الأجساد والعقول، لكنها كانت بالضبط ما يتوق إليه المشجعون.

ليست كل ثلاثيات النزالات متكافئة أو خالدة؛ فكثيرٌ منها يفقد بريقه مع مرور الوقت، أو تضعفه إقامة النزال الأخير في توقيت غير مناسب.

لكن ثلاثية بَو – هوليفيلد كانت استثناءً نادرًا ومذهلًا —

كل نزالٍ بينهما كان عنيف إلى أقصى حد،

وكل ضربةٍ ساهَمت في كتابة فصلٍ خالد من تاريخ الوزن الثقيل.