مع مطلع القرن العشرين، لم تكن الملاكمة مجرد رياضة مختلفة تمامًا عمّا نعرفه اليوم فحسب، بل إن معظم الولايات والمدن الأمريكية لم تكن قد حسمت بعد ما إذا كانت على استعداد لاستضافة «الفن النبيل» من الأساس.
فقد حظرت ولايات مثل نيويورك الملاكمة حظرًا تامًا، بينما قامت مينيسوتا بحظرها من الناحية القانونية دون تطبيق فعلي صارم. أما مناطق أخرى، فكانت أكثر مرونة، فسمحت بإقامة النزالات مع فرض قيود صارمة، كخفض عدد الجولات ومنع القرارات التحكيمية أو احتساب النقاط، في محاولة واضحة للحد من القمار.
أما ولاية إلينوي، وتحديدًا مدينة شيكاغو، فقد شهدت في عام 1898 زيادة شبه هائلة في عدد العروض الاحترافية، رغم وجود حظرٍ شكلي. وكانت الملاكمة آنذاك تُقام في الغالب داخل المسارح ودور الأوبرا والأندية الرياضية، غير أن موقعًا واحدًا، هو حلبة عرض الخيول في تاترسولز، بدأ في استضافة نزالات بمعدل مرة كل شهرين تقريبًا.
شُيّد تاترسولز بتكلفة باهظة ليكون بمثابة تكريم لنظيره اللندني الشهير، ومكانًا مخصصًا لعرض الخيول، لكنه كان يتسع لما يصل إلى 10 آلاف متفرج. وهناك، قدّم ملاكمون بارزون مثل العبقري الدفاعي يونغ غريفو وصاحب اللكمات القوية جو تشوينسكي عروضهم أمام الجماهير.
أحد أكثر ملاكمي تسعينيات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إثارةً وعظمة، جو غانز، خاض بعضًا من أغرب نزالات مسيرته داخل تاترسولز. أولها كان عام 1898 أمام جو “كيد” روبنسون، وهو ملاكم مغمور لم يخض سوى نزال احترافي واحد. أسقط غانز خصمه بقوة في الجولة الثانية، وخرج روبنسون للجولة الثالثة «في حالة سيئة للغاية»، بحسب أحد التقارير، قبل أن تنقطع الكهرباء فجأة عن الصالة، ليبقى نحو 3 آلاف متفرج في الظلام لمدة نصف ساعة، قبل توزيع تذاكر بديلة واستكمال فوز غانز بالنقاط في الليلة التالية.
غير أن الكارثة الأخرى لغانز في تاترسولز كانت أعظم أثرًا، إذ أدت في نهاية المطاف إلى إغلاق المكان، وإلى توقف رياضة الملاكمة في إلينوي لأكثر من 25 عامًا.
كان “تيري الرهيب” ماكغفرن آفة وزني الديك والريشة في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، حيث سار على خطى الأسطورة جورج ديكسون ليحرز ألقابًا في الفئتين. لم يمتلك ماكغفرن رشاقة ديكسون أو مهاراته الفنية، لكنه في زمنٍ كثرت فيه النزالات بلا قرار، كان يُسقط معظم خصومه بالضربة القاضية. كان ملاكمًا شرسًا وضاربًا مدمّرًا للجسم.
ولم يكن امتلاء القاعات بالجماهير المتعطشة لرؤية هذا الملاكم الشاب كافيًا لإثبات شعبيته، بل كُتب له دور في عرض مسرحي شهير بعنوان «The Bowery After Dark»، وهو ما أكد نجوميته. كما تصدّر عروضًا في تاترسولز وماديسون سكوير غاردن، وعدد من الأندية الرياضية المرموقة في نيويورك عام 1900. وقد دفع تاترسولز لماكغفرن للعودة أربع مرات في ذلك العام، من بينها فوز على ديكسون، قبل أن تتم مواجهته مع غانز.
قبل الاندماج الكامل للملاكمة – وحتى بعده لفترة – كانت هناك ألقاب عالمية « للملاكمين البيض» وأخرى «للملاكمين السود.». ويعود تاريخ بطولة الوزن الثقيل للملاكمين السود إلى منتصف القرن التاسع عشر، وحملها عظماء مثل سام لانغفورد وجاك جونسون. كما وُجدت ألقاب منفصلة في أوزان أخرى، إلا أن معظمها، خارج الوزن الثقيل، يفتقر إلى تسلسل تاريخي واضح.
وبينما كان غانز يشق طريقه في فئة الوزن الخفيف المتاحة له آنذاك، نافس على لقب الوزن الخفيف للملاكمين السود، إضافة إلى ألقاب محلية متعددة. وقد كسر ديكسون الحاجز عام 1892 عندما أصبح أول ملاكم أسود يحرز لقبًا عالميًا، وسار آخرون – من بينهم غانز – على خطاه لاحقًا. لكن في تلك الأثناء، كان على معظم الملاكمين السود خوض معارك شاقة دون ضمان الوصول إلى فرصة للمنافسة على اللقب.
في السنوات الأخيرة التي سبقت عام 1900، واجه غانز معظم المصنّفين في الوزن الخفيف، من مدينته بالتيمور وصولًا إلى دنفر. وبطولٍ يقارب 170 سم، كان أطول ببضع بوصات من ماكغفرن، ويستخدم ضربته الأمامية كسيفٍ رفيع. ومن ينجح في تجاوزها كان يصطدم بقوة ضربات مدمّرة من كلتا اليدين، وغالبًا ما يكون غانز قد غادر نطاق الخطر قبل أي رد فعل.
لكن الحظ خذله في أول فرصة لقب، حين خسر بالضربة القاضية أمام البطل فرانك إرني بعد تعرضه لجرح بالغ نتيجة اصطدام غير متعمد بالرأس. وربما لم تكن تلك خسارة بمعايير اليوم، لكنها كانت كذلك آنذاك. وزادت الصورة سوءًا عندما دمّر ماكغفرن إرني في نزال غير لقبي بعد أشهر قليلة.
ورغم كل التعقيدات، كان غانز المرشح الأوفر حظًا مبدئيًا. ونصّ العقد على حصول الفائز على %65 من الحقيبة، وعلى فوز ماكغفرن تلقائيًا إذا لم يتمكن غانز من إسقاطه بالضربة القاضية خلال ست جولات. كما طُلب من غانز الالتزام بوزن 133 رطلاً قبل وقت قصير من النزال.
كان القمار غير الخاضع للضرائب في نزالات الملاكمة مشكلة قانونية كبرى. وبقدر ما كانت سلامة الملاكمين والصورة العامة من دوافع التنظيم، ظل المال هو الدافع الأكبر. كما كانت تحركات المراهنات قادرة على تغيير قراءة أي نزال.
قبيل انطلاق نزال ماكغفرن ضد غانز في تاترسولز، تحولت المراهنات بشكل حاد لصالح ماكغفرن، ليس للفوز فقط، بل لإنهاء النزال خلال أربع جولات. ثم جاءت الصدمة حين تبيّن أن غانز تجاوز وزن 134 رطلاً، ما يعني فقدانه نصف حصته من الحقيبة تلقائيًا.
وكانت الكارثة داخل الحلبة أعنف. أمطر ماكغفرن غانز بلكمات متتالية على الفك، فأصابه إصابةً بالغة في الجولة الأولى، قبل أن يسدد له لكمةً مُوجَّهَة إلى الجسم، ثم خطافًا يساريًا أطاح به أرضًا. نهض غانز، لكن ماكغفرن أسقطه مجددًا بعد الجرس.
في زمن لم يكن فيه الملاكم ملزمًا بالذهاب إلى زاوية محايدة، كان الوقوف أمام آلة هجومية مثل ماكغفرن أمرًا مرعبًا. وبالفعل، بدا غانز مذهولًا مع بداية الجولة الثانية.
أطلق ماكغفرن خطافه اليساري، فسقط غانز مع انطلاق الجولة. نهض، ثم سقط خمس مرات أخرى، قبل أن تُنهي ضربة يمينية قصيرة النزال بالعدّ الكامل.
تحدثت صحف شيكاغو عن همسات «تلاعب»، لكن الحكم جورج سايلر أكد عدم وجود أي دليل على ذلك، باستثناء تحركات المراهنات، وأصرّ على اعتماد النتيجة. ودافع الملاكمَان بقوة عن نزاهتهما قبل أن يُطلق سراحهما.
وقال غانز:
«الرجل الأفضل فاز. لا أملك أعذارًا. ظننت نفسي قويًا، لكنني لم أستطع الملاكمة كما ينبغي. أسوأ ما في الأمر هو اتهامي بالتمثيل».
تزامن انفجار عروض الملاكمة في شيكاغو مع نمو الجريمة المنظمة، ومع ذلك كانت الملاكمة على وشك الحظر في عموم الولايات المتحدة. وبعد نزال ماكغفرن–غانز، ترسخت شائعات التلاعب إلى حد دفع إدارة تاترسولز إلى الخروج نهائيًا من عالم الملاكمة، قبل أن يُغلق المكان ويُهدم بعد سنوات.
أما في المدينة العاصفة، فقد عانت الملاكمة أكثر؛ إذ ضغط المعارضون الدينيون على السياسيين، فتم القضاء على الملاكمة في شيكاغو لمدة 26 عامًا. وأصبح نزال ماكغفرن–غانز مضرب مثل، حتى قيل لاحقًا إن أي نزال مشبوه «تفوح منه رائحة أسوأ من نزال غانز ضد ماكغفرن».
وقد أثبت ماكغفرن وغانز صدقهما لاحقًا مرات عديدة داخل الحلبة. غير أن خبرة عقود من الملاكمة علمتنا أن مشاكل الوزن قد تُحوِّل أسدًا إلى حملٍ وديع. أما في عام 1900، فقد كان فوز ملاكم من وزن الريشة على ملاكم من الوزن الخفيف أمرًا غير قابل للتصديق، لدرجة أنه كاد يدمّر مستقبل الملاكمة بأكملها.